في قلب العراق، حيث يلتقي دجلة بالذاكرة، تنبض بغداد بتاريخها العريق، وتمدّ جذورها في عمق الزمن. وبين أزقتها القديمة وأسوارها التي دارت حولها الحكايات، كانت أبواب بغداد ليست مجرد ممرات أو نقاط عبور، بل كانت رموزًا لهوية المدينة، تحرسها وتفتخر بها، وتروي قصة كل من دخلها أو خرج منها.
بغداد المدورة… مدينة ذات أبواب
عندما بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 762م، صُممت بغداد على شكل دائرة شبه مثالية، أُطلق عليها لقب المدينة المدورة. أحاطت بها أسوار قوية، وكانت تتخللها أربعة أبواب رئيسية، لكل باب منها اسم ومغزى وموقع استراتيجي، وجميعها كانت تؤدي إلى طرق رئيسية تربط بغداد بمدن العالم الإسلامي.
- باب خراسان
يقع في الجهة الشمالية الشرقية، وكان يُعرف بـ”باب الدولة”، لأنه الطريق إلى خراسان، حيث كانت القوة السياسية والعسكرية للعباسيين تنبثق. منه دخل أبو مسلم الخراساني، وكان بابًا ترتعد له الفرائص، وتمر عبره الجيوش.
- باب الشام
في الجهة الغربية، وهو الطريق إلى بلاد الشام. كان هذا الباب وجهة القوافل والتجار، يُفتح للزوار والمارين من دمشق وحلب، ويحمل عطر التجارة والثقافة والمراسلات.
- باب الكوفة
جنوبًا، وهو الذي يربط بغداد بالكوفة والحجاز. عبَر منه الحجاج في طريقهم إلى مكة، وكان شاهداً على الرحلات الروحية الكبرى، يحمل أصوات التهليل والتكبير.
- باب البصرة
في الجنوب الشرقي، المؤدي إلى مدينة البصرة، ميناء العراق ونبضه التجاري. عبر هذا الباب، دخلت السفن المحملة بالتوابل والحرير والكتب، وكان رمزًا للحركة الاقتصادية والثقافية.
ليست مجرد أبواب… بل رموز حضارة
كل باب من أبواب بغداد كان أكثر من مدخل، كان نقطة التقاء بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، بين الحضارات والأفكار، بين السيوف والأقلام.
وكان لكل باب حراسة مشددة، وأبراج للمراقبة، وسوق صغير في جواره، وحركة لا تهدأ من العابرين والباعة والقصص التي تروى على أعتابه.
ماذا بقي منها اليوم؟
رغم أن المدينة المدورة لم تبقَ على حالها، وتغير وجه بغداد عبر العصور، إلا أن الذاكرة ما زالت تحفظ أسماء هذه الأبواب، وتستعيد حضورها في الروايات والقصائد والخرائط القديمة. بقيت بعض البوابات حتى العصر العثماني، ثم تلاشت مع التوسّع العمراني، لكن حضورها الرمزي ما زال قويًا.
في كل حجر، في كل زاوية، ما زالت بغداد تهمس:
“أنا ابنة الأبواب الأربعة… وكل من مرّ منها ترك شيئاً من روحه في دمي.”