في قلب جبل الزاوية، وعلى السفح الغربي لجبل الأربعين، تتربع مدينة البارة الأثرية كواحدة من أبرز الشواهد على تعاقب الحضارات في شمال سوريا. تبعد البارة حوالي 34 كيلومتراً عن مدينة إدلب، وتغطي مساحة تقارب 6 كيلومترات مربعة، تتناثر فيها بقايا الأبنية القديمة بين أشجار الزيتون، كأنها تحرس ذاكرة الزمن وتروي حكاياته بصمت مهيب.
تاريخ متجذر في العصور
عرفت البارة منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وورد اسمها منقوشاً على حجر في بناء يُعرف بالدير، باسم “كفر البارة”، ثم “الكفر”، قبل أن يستقر المؤرخون العرب على تسميتها “البارة”. كانت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية الشرقية بعد الانقسام، وازدهرت في العهد البيزنطي، حيث شُيدت فيها الكنائس والمنازل الحجرية والمعاصر، لتصبح مركزاً عمرانياً واقتصادياً بارزاً.
معمار يحاكي الروح
تتميز البارة بطراز معماري فريد، يجمع بين الدقة الهندسية والرمزية الدينية. من أبرز معالمها الكنائس الخمس، ثلاث منها على شكل بازيليكي، أي بثلاثة أجنحة، إضافة إلى منازل حجرية ضخمة مثل “دير سوباط”، ومعاصر زيتون وخمور نُقش عليها اسم “باخوس”، إله الخمر في الأساطير الرومانية. هذه التفاصيل المعمارية لا تعكس فقط براعة البناء، بل أيضاً تنوع العقائد التي مرت على المدينة.
البارة اليوم: أطلال تنبض بالحياة
رغم أن المدينة هجرت في القرن الثاني عشر، إلا أن آثارها ما زالت تقاوم الزمن. المقابر الإسلامية والمساجد الصغيرة المهجورة والنقوش العربية المتنوعة، كلها تشهد على استمرار الحياة فيها حتى العصور الإسلامية. كانت البارة حتى وقت قريب وجهة سياحية يقصدها الزوار من مختلف أنحاء العالم، لجمال آثارها وتنوعها الثقافي، قبل أن تعصف بها الأحداث وتغيب عن خارطة السياحة.
البارة ليست مجرد موقع أثري، بل هي مرآة لتاريخ طويل من التفاعل الحضاري والديني والمعماري. في حجارتها صمتٌ يتكلم، وفي أطلالها حياةٌ تنتظر من يعيد اكتشافها. إنها دعوة مفتوحة للتأمل في ما تركه الإنسان من أثر، ولإعادة وصل ما انقطع بين الماضي والحاضر.