في قلب مدينة حلب، وتحديدًا في ساحة سعد الله الجابري، كان يقف تمثال الشهداء شامخًا، يروي بصمته حكاية مدينة عريقة ووجع أمة. لم يكن هذا التمثال مجرد عمل نحتي، بل كان تجسيدًا بصريًا لذاكرة جماعية، ورمزًا للتضحية والفداء في واحدة من أقدم مدن العالم.
النشأة والرمزية
تمثال الشهداء، المعروف أيضًا باسم “أم الشهيد”، أنجزه النحات السوري عبد الرحمن مؤقت عام 1985، مستخدمًا الحجارة الحلبية الصفراء التي تعكس هوية المدينة المعمارية. التمثال يصور أمًا سورية تجلس في صمت، تحمل بين يديها صورة ابنها الشهيد، في مشهد يفيض بالكرامة والحزن النبيل.
اختير موقع التمثال بعناية في ساحة سعد الله الجابري، إحدى أبرز الساحات العامة في حلب، ليكون نقطة التقاء بين الذاكرة الوطنية والحياة اليومية، ومكانًا يقصده المواطنون في المناسبات الوطنية لتكريم الشهداء واستحضار معاني التضحية.
النقل والجدل
في يوليو 2025، أعلنت مديرية الآثار والمتاحف في حلب عن نقل التمثال ضمن خطة لإعادة تأهيل الساحة، وتحسين الرؤية نحو الشاشة الإلكترونية التي نُصبت حديثًا في الموقع. لكن عملية النقل أثارت جدلًا واسعًا، بعد انتشار مقطع مصور يُظهر تحطم الجزء العلوي من التمثال أثناء محاولة رفعه بطريقة وُصفت بأنها غير احترافية.
الحدث أثار موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبره كثيرون إهانة لذاكرة المدينة، وتجاهلًا لقيمتها الرمزية. بينما دافعت الجهات الرسمية عن القرار، مؤكدة أن التمثال سيُرمم ويُعاد عرضه في موقع مناسب.
بين الترميم والطمس
رغم التصريحات الرسمية، لاحظ كثيرون غياب التمثال عن التصاميم الجديدة للساحة، ما أثار تساؤلات حول نية طمسه من المشهد العام. البعض رأى في ذلك محاولة لإعادة تشكيل الذاكرة البصرية للمدينة، بما يتماشى مع توجهات جديدة لا تعير الرموز التاريخية ذات الأهمية الشعبية الاهتمام الكافي.
دلالات ثقافية
تمثال الشهداء ليس مجرد نصب حجري، بل هو مرآة لوجدان المدينة، وذاكرة بصرية لحقبة من الألم والفخر. وجوده في الساحة لم يكن تزيينًا عمرانيًا فحسب، بل كان بمثابة منبر صامت يروي قصص الفقد والانتماء، ويمنح المارة لحظة تأمل في معنى الوطن.
إن التعامل مع هذا التمثال لا يجب أن يكون تقنيًا أو إداريًا فقط، بل يجب أن يُنظر إليه كجزء من هوية المدينة، وكرمز يستحق الحماية والاحترام، لا الإزاحة أو التهميش.