في قلب الصحراء السورية، وعلى ضفاف نهر الفرات، نهضت مملكة ماري كواحة من العبقرية السياسية، والازدهار العمراني، والتنوع الثقافي. لم تكن مجرد مدينة، بل كانت حلمًا متجسدًا في الطين، يروي قصة الإنسان حين يقرر أن يصنع مجده من لا شيء.
تقع ماري في تل الحريري، قرب مدينة دير الزور شرق سوريا. موقعها الاستراتيجي جعلها نقطة وصل بين حضارات بلاد الرافدين، وبلاد الشام، والأناضول. كانت بوابة تجارية، ومركزًا دبلوماسيًا، ومرفأً للثقافات المتداخلة.
حكم ماري ملوك أقوياء، أبرزهم زمري ليم، الذي عرف بدهائه السياسي وتحالفاته الذكية. كانت المملكة تُدار بنظام إداري متطور، يتضمن أرشيفًا من الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري، تكشف عن شبكة مراسلات دولية، وتقارير استخباراتية، وأوامر ملكية دقيقة. من أبرز ما وُجد في أرشيف ماري: رسائل بين الملك وزوجته، تقارير عن تحركات الجيوش، ووثائق تجارية مع مدن مثل بابل وأوغاريت.
ماري كانت تحفة معمارية. قصرها الملكي، الذي يمتد على أكثر من ثلاثمئة غرفة، يُعد من أعظم الاكتشافات الأثرية في الشرق القديم. الجدران كانت مزينة بلوحات جدارية، منها لوحة “الوليمة المقدسة” التي تجسد الطقوس الدينية والاحتفالات الملكية. الفن في ماري لم يكن ترفًا، بل وسيلة تعبير عن السلطة، والهوية، والروح الجماعية.
عبد سكان ماري آلهة متعددة، أبرزها عشتار، إلهة الحب والحرب، وشمش، إله الشمس والعدالة. الطقوس الدينية كانت جزءًا من الحياة اليومية، تتداخل مع السياسة والتجارة وحتى التعليم. كما كشفت الألواح الطينية عن اهتمام كبير بالتعليم، وتدوين المعرفة، مما يدل على مجتمع مثقف ومتعدد الطبقات.
في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، تعرضت ماري للدمار على يد حمورابي ملك بابل، الذي رأى فيها تهديدًا لمشروعه التوسعي. احترق القصر، واندثرت المملكة، لكن الطين ظل ينطق باسمها، حتى اكتشفها علماء الآثار في القرن العشرين، لتعود ماري إلى الضوء بعد آلاف السنين من الصمت.
مملكة ماري ليست مجرد أطلال، بل مرآة لحضارة عرفت كيف توازن بين القوة والذكاء، بين الفن والسياسة، بين الإنسان والطين. إنها دعوة للتأمل في تاريخنا، ولإعادة اكتشاف سوريا كأرض ولّادة للحضارات.